من الصعب إنكار أن فكرة استعادة دولة الجنوب ما زالت حاضرة في وجدان الغالبية العظمى من الجنوبيين، بوصفها تعبيرًا عن هوية سياسية وتجربة تاريخية سابقة، أكثر من كونها مجرد موقف سياسي آني. ومع ذلك، فإن وجود أصوات جنوبية متحفظة أو مترددة تجاه هذا المشروع يطرح تساؤلًا مشروعًا يستحق التوقف عنده بهدوء ومسؤولية.

هذا التحفظ لا ينطلق، في الغالب، من رفض مبدأ الدولة الجنوبية ذاته، بل من مخاوف تشكّلت بفعل تجارب تاريخية قاسية عاشها الجنوب قبل الوحدة. فقد شهدت تلك المرحلة صراعات سياسية داخلية، أفضت إلى إقصاء قوى، وتهميش أخرى، وخلّفت جراحًا لم تُعالج بصورة شاملة حتى اليوم. ومن الطبيعي أن تظل ذاكرة تلك المرحلة حاضرة في حسابات كثيرين عند التفكير في أي مشروع سياسي جديد.

تزداد هذه المخاوف حين يرى بعض الجنوبيين أن ميزان القوة الحالي في الجنوب يميل لصالح طرف بعينه، هو نفسه الذي كان فاعلًا رئيسيًا في صراعات الماضي، بينما تشعر قوى جنوبية أخرى بأنها خارج معادلة التأثير، ولا تمتلك الضمانات الكافية لمستقبل سياسي عادل ومتوازن. في هذا السياق، يصبح القلق مفهومًا، لا سيما إذا غابت الرؤية الواضحة لشكل الدولة القادمة وآليات إدارتها.

لهذا، يرى بعض الجنوبيين – عن قناعة أو اضطرار – أن الوحدة، رغم ما شابها من اختلالات كبيرة، ما تزال تمثل إطارًا أقل غموضًا مقارنة بمشروع جنوبي لم تتضح بعد معالمه الدستورية والسياسية. هذا الموقف لا يعني الدفاع عن واقع قائم بقدر ما يعكس خشية من المجهول.

إن التحدي المطروح أمام القوى المتصدرة للمشهد الجنوبي، وفي مقدمتها المجلس الانتقالي الجنوبي، يتمثل في القدرة على طمأنة مختلف المكونات الجنوبية عبر إجراءات عملية، لا عبر الخطاب وحده. وفي مقدمة هذه الإجراءات تأتي الحاجة إلى مصالحة وطنية جنوبية شاملة، تعترف بتجربة الماضي وتتعهد بعدم تكرارها، وتؤسس لشراكة سياسية حقيقية.

كما أن بناء مؤسسة عسكرية وأمنية وطنية، تمثل مختلف مناطق الجنوب وتخضع لقيادة مهنية متوافق عليها، يعد عنصرًا أساسيًا في تعزيز الثقة. فالدولة لا تُبنى باحتكار القوة، بل بتوزيعها ضمن إطار وطني جامع.

وفي السياق ذاته، تبدو الحاجة ملحة لتشكيل إطار تمثيلي منتخب، كجمعية وطنية جنوبية، تكون معبرة عن إرادة الجنوبيين بكل تنوعهم، ومخوّلة باتخاذ القرار بشأن مستقبل العلاقة مع الوحدة، سواء بالاستمرار أو المراجعة أو العودة إلى استفتاء شعبي حر في حال تعذر التوافق.

أما على مستوى الإدارة، فإن تبني نموذج لامركزي واسع، يتيح لكل منطقة إدارة شؤونها المحلية والمشاركة في حماية أمنها، مع الاحتفاظ بقرارات سيادية تُتخذ بالتوافق، يمكن أن يشكل أساسًا متينًا لدولة مستقرة وعادلة. ويبقى تحديد هوية النظام السياسي القادم – من حيث طبيعته المدنية وضمانه للتعددية والحقوق – خطوة لا غنى عنها لتبديد المخاوف وبناء الثقة.

في المحصلة، فإن التحفظ الجنوبي على استعادة الدولة لا يرتبط برفض الفكرة، بل بالحاجة إلى ضمانات واضحة تمنع تكرار أخطاء الماضي. وأي مشروع جنوبي لا يضع هذه الضمانات في صلب رؤيته، سيظل موضع تساؤل، مهما كانت نواياه أو شعاراته.