آه ياعزيزي همام كلما قرأت رسالتك ، أشعر بمرارة شديدة ، وأرى نفس هذه المرارة تبدو على ملامحك . أعرف أنك
لاتنتظر مني جواباً، فلست أملك لك حلاً، ولكني على الأقل أملك نبل مشاركتك فيما تعاني منه، لعله يخفف من بعض شجنك . 
 أعرف جيداً، أن شعوري لا يمكن أن يرتقي ولو قليلاً إلى شعورك ، فالذي يده في النار كما يقال ليس كالذي يده في الماء !
 ولكن هذا ماأملكه... التعاطف ، ونشر رسالتك، لعل أحداً في هذه البلاد يتدارك الأمر، ويستيقظ فيه الضمير وينقذها من الخراب الأكيد..
 وأنا أقرأ رسالتك، تذكرت قول مهاتير  
 محمد :"أهم درس تعلمته من تجربتي في الحكم ان مشاكل الدول لاتنتهي، لكن حلها جميعاً يبدأ من التعليم ".
 وهذا جوهر الرسالة التي بعثها لي صديقي الأستاذ همام عبدالرحمن باعبَّاد من مدينة قصيعر ، شرقي مدينة المكلا بحضرموت، تعليقاً على رثائي لصديقي الشاعر كريم الحنكي الذي رحل بصورة فجائية الأسبوع الماضي تاركاً في نفوسنا كماًمن الأسى والحزن العميقين، وهو في قمة إبداعه الشعري والفني،وفي نضارة عمره .
 ...الرسالة تلامس بعض الأسباب التي تجعل المرء في هذا الوطن يموت كل يوم لألف سبب وسبب، فكمية الحيف و المنغصات والمآسي التي يتعرض لها لاتُعد ولاتُحصى، وربما سعيد الحظ من يحظى بالموت، وهو راحة للشخص في ظروف مثل ظروف اليمن، من هكذاحياة ليس فيها مايسر، ولاحتى بصيص أمل يجعله يتمسك من أجله بالحياة ...!
 وربما، تغمر أحدنا، حالة غير محدودة من الفرح، لمجرد أن لاحت له فرصة للسفر ومغادرة وطنه! لكنه فرحٌ مؤقت، وسفرٌ مؤجل، وعذابٌ مقيم .فلا أحد يسعده أن يغترب عن أهله ووطنه إلاّ إذا كان مُضطراً، والمضطر يركب الصعب كما يقال.وحتى الذين جربوا هذا الطريق عاد أغلبهم بخيبة أمل وخفي حُنين ، أما مطرودين، أو بعد أن دفعوا أثماناً باهضة من أعمارهم وصحتهم وقوة شبابهم دون أن يحققوا ولو القليل من الحلم الذي ذهبوا خلفه ...
  الأستاذ همام باعبًَاد في رسالته ، لا يعبر عن حالته الخاصة وحده، لكن في الواقع والحقيقة حالته تشبه، بل وتتطابق مع حالة كثيرين في سائر المهن، ممن
تعرضوا لنفس الغبن منذعقود،واضطرتهم قسوة الظروف والظلم الذي لحق بهم،إلى مزاولة مهن غير مهنهم، و العمل في غير تخصصاتهم، على الرغم من شهاداتهم العليا وخبراتهم!! وحاجة الوطن إليهم ...
فقط ليحافظوا على رمق العيش لهم ولأسرهم.اشتغل بعضهم سائقي سيارات أُجرة،  والبعض بائعي خضراوات،والبعض بائعي خمير، وعصير،وكانوا أساتذة
جامعات، وطيارين، ومهندسي طيران، وخريجي أكاديميات، والأغلبية ظلوا ولازالوا رهيني سياسة ( خليك بالبيت !! ) السيئة الصيت عسكريين ومدنيين، منذ حرب صيف العام 1994م. 
  مما يندى له جبين كل من لديه ضمير في هذا البلد، أن أستاذاً يحمل مؤهل ماجستير مناهج وطرائق التدريس ، وبكاليوروس في علوم الحاسوب،يشتغل حمالاً في ميناء، يحمل الأسماك واكياس الثلج تارة، وعامل بناء وطلاء،تارة أخرى، وسائق تاكسي ثالثة. و كاد ذات يوم يشتغل مجنداً !! وربما كان من حسن حظه أنه لم يقبل ... 
  للأسف ياصديقي همام، نحن في بلاد لاكرامة فيه لمعلم ! لم نعد في البلاد التي تعلمنا فيها من معلمينا الأفاضل قصيدة شوقي:" قم للمعلم وفه التبجيلا ..كاد المعلم أن يكون رسولاً ". نحن في بلاد يحمل فيهاالمعلم أكياس الثلج، و يبلط الأرض، ويرنج الجدران !! ويقال له:  "شلني يادريول" !!
  ليس في العمل عيب، لكن فيه قلة احترام، للمعلم الذي علم الأجيال،  عندما يتحول إلى حمَّال يحمل على ظهره الأثقال، ولاكرامة لمعلم في يمنه !!
  فيما يلي رسالة الأستاذ همام باعباد بكل ماتنضح فيه من مرارة، وألم على الحال الذي وصل إليه المعلم، وبالتالي التعليم في بلادنا "!" فإذا كنا نعامل المعلم هكذا....فكيف لايكون حال التعليم بهذا المستوى من التدني والسوء، وحال تلاميذنا وطلابنا بهذا الضياع ؟  وأي مستقبل نرجوه لهذا الوطن..وبأي العقول سوف نبنيه ونحن نهين معلميه، ونهضم حقوقهم،ونجعل مرتباتهم في أدنى سلم الأجور؟! ويبقون بدون مرتبات لشهور ؟!! فيضطرون للإضراب ، وتغلق المدارس ويعطل التعليم ويصبح التلاميذ مشردين في الشوارع !!
   يقول همام في رسالته التي أرقتني  وآلمتني:
 " ربما يشعر الشخص أنه يموت أكثر من مرة في اليمن المنكوب.
أستاذ محمد.. لا تستطيع قياس كمية الفرح وأنا أعامل جواز سفر.. هل هناك إنسان يفرح بمغادرة وطنه؟!
لماذا نفرح؟
لأن الوطن لم نشعر فيه، بمايجعلنانتمسك
 بالبقاء فيه.
عندما تغلق الأبواب في وجهي وأحرم من تعاقد بالأجر اليومي، مع إني حاصل على "الماجستير" في المنهاج وطرائق التدريس، ويُعطى غيري الذي قد لا يتجاوز تأهيله الثانوية العامة؟
  كيف تكون مشاعر معلم، نحو وطن، وهو ينزل إلى الميناء ليحمل أكياس الثلج أو الأسماك؟ بينما يتقاسم العمل مع أشخاص لا يعرفون القراءة والكتابة أصلاً - اللهم لا كبر ولا شماتة- ؟!
  كيف نحب الوطن؟ونحن نحرم من معيشة تجعل راتب الشخص رهين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة لجزء من الشهر ؟!
 رغم ذلك، لا زلت أقول إنَّ قرار السفر الذي اضطررت إليه هو قرار مؤقت يتم الاستغناء عنه بمجرد تحسن الحال.فلا يعقل أن يمضي الشخص عمره في الغربة بعيداً عن أهله ووطنه إلا إذا اضطر لذلك وللضرورة أحكام؟!!
 أخيراً يا أستاذ محمد...
هل تعلم أني عملت بجميع المهن الممكنة في محيط مدينة قصيعر:   معلم في السلك الحكومي، وفي مهن حرة:الحمالة، البناء، الطلاء (الرزق)،البلاط، سائق أجرة، 
وأخيراً اشتغلت في البحر".
  انتهت رسالة صديقي الأستاذ همام باعباد، لكن للقصة بداية وهذه لم تكن سوى النهاية أو بداية النهاية. وهذه هي القصة كما كتبها هو بنفسه وبقلمه حتى لايترك مجالاً لسؤال السائلين: 
"أستاذ همام...."
  هذه الصفة أصبحت تلازمني عند بني قومي حيثما حللت أو ارتحلت؛ فحيثما وطأت قدمي يأتي هذا النداء منذ أن عملت معلماً بالتعاقد عام٢٠١٦م،فالوظائف صارت في خبر كان منذ بدءالأزمةالحالية.
ولم يقتصر هذا اللفظ لدى طلابي وتلاميذي الذين تقاسمت معهم الجو الدراسي خلال ثمان سنين دراسية، بل امتد ليشمل الأشخاص في خارج نطاق المدرسة - كما هي عادة مجتمعنا-وأصبح هذا التلازم عنواناً لي ويأتي النداءبعفوية حتى صار ملتصقاً بي حتى بعد مغادرة قاعة الدرس في شهر يناير ٢٠٢٤م.      
  البداية مع مهنة التدريس كانت من ثانوية قصيعر للبنين في العام الدراسي ٢٠١٧/٢٠١٦م،ووجدت في الإدارة كل من: مدير المدرسة الأستاذ/ فايز محمدباعبَّاد الذي درسني في الصف الثاني الثانوي علمي،ووكيل المدرسة الأستاذ/رزق سعيد نصيب الذي درسني في الصف الثالث الأساسي، وكان ضمن الطاقم الإداري في مدرسة الشهيد/ محمد سعيد باعبَّاد، الاخصائي الاجتماعي الأستاذ/ أمجد عمر التريمي الذي درسني في الصف الأول الثانوي، بالإضافة إلى بعض الأساتذة الذين تشرفت بالاستفادة من علمهم، أو الذين تزاملت معهم في الدراسة الثانوية، أو في السكن الداخلي بمجمع الغليلة لكليتي التربية والعلوم بالمكلا. ثم انتقلت للتدريس في مدرسة سعد بن أبي وقاص بمهينم، وأمضيت ستة أعوام دراسية أسند إليَّ خلالها تدريس عدة مواد دراسية، وهي: القرآن الكريم، اللغة العربية، الرياضيات، العلوم والاجتماعيات.
 عندما أَنتهى الفصل الدراسي الأول في العام الدرا سي ٢٠٢٤/٢٠٢٣م جاءت فرصة الالتحاق بقوات درع الوطن، فرأيت أن اغتنم هذه الفرصة لتحسين دخلي،وهذا طموح يسعى إليه أي شخص في هذه الأيام حتى لو كان موظفاً ثابتاً وليس بالأجر اليومي مثلما هو حالي وحال المعلمين المتعاقدين مع التربية والتعليم. ذهبت للوديعة مع غيري، واجتزت كافة الكشوفات  بما في ذلك الكشف الطبي مع طالبي التجنيد وكانت نتائجي سليمة مائة بالمائة، ومع ذلك سقط اسمي ضمن سبعين آخرين دون توضيح الأسباب! تابعنا مع قيادة اللواء، وأخذوا بياناتنا وعلى وعد التواصل عند وجود فرصة، ولما أحسسنا أنَّ الطيور طارت بأرزاقها!! رجعت للبلاد....
كان رجوعي للبلاد مع بداية الفصل الدراسي الثاني، وكانت فترة تشهد إضرابات في المدارس، فكلمت مدير التربية والتعليم في المديرية على أساس التعاقد من جديد، فقال: (لاتوجدإمكانية)  فاشتغلت في الأعمال الخاصة، ولمابدأت التجهيزات للسنة الدراسية الجديدة، كلمته من جديد وعرضت عليه العمل من بوابة التخصص في الماجستير ضمن قطاع التدريب والتأهيل أوالتوجيه الفني أو العمل في التدريس فاعتذر بعدم وجود إمكانية.
  وبعد ذلك اشتغلت في البحر ثم في القرين، والعمل مهما كان ليس عيباً إذا كان ليس فيه محظور شرعي...
ثم في فترة لاحقة تواصلت مع مدير مكتب التربية والتعليم بساحل حضرموت للحصول على عمل ينسجم مع تخصصي في الماجستير، فأجاب: " بالنسبة للتعاقد ياشيخ همام حالياً موقف رسمياً من السلطة المحلية عدا الاستبدال للمعلمين المنقطعين عبر إدارات التربية بالمديريات ويتوقف الاستبدال في فترة الإجازة، ومافي حاجة اسمها تعاقد في التدريب والتأهيل والتوجيه الفني"، واختتم بالقول: " أنت أولاً تقدم للتربية للتعاقد كمعلم بفرصة استبدال للمنقطعين وربنا ييسر الأمور".
  هذه خلاصة رحلتي مع مهنة التدريس، وهذا التوضيح كتبته لأنه تأتي أسئلة عن سبب تركي للتعاقد، فاحببت نشره حتى يعلم الجميع، وقد كتبت هذا فقط لغرض التوضيح وليس له علاقة بأي شيء آخر."
 حالة الأستاذ همام باعباد، نجد مثيلاً لها في بلدان عربية أخرى ، فنحن في الأول والأخير نتشابه في التخلف والجهل واضاعة الحقوق، وامتهان الكرامة، وإذلال المواطن أي كانت وظيفته...وأنا اكتب قصة الأستاذ همام قفزت بذهني قصة أخرى لمعلم لغة عربية من العراق، اسمه (خليل) ... رواها العالم الجليل. موسى أباظة، وأرسلها لي صديقي وتوأم روحي أديب قاسم في نفس الساعة ، وبيني وبين اديب، ليس مجرد توارد خواطر، بل  تجاذب عميق، وتشابه في أشياء كثيرة إلى درجة من الشعور  الواحد ، بحيث نحس بالشيء ذاته في نفس الوقت كما يحس التوائم تماماً ....
 " الدكتور العالمي والمستشار العراقي الأشهر ضياء كمال_الدين هو كبير استشاري أمراض القلب والصمامات بالمستشفى الملكي في لندن بالمملكة المتحدة تم استدعاؤه للعراق لتكريمه بعد غياب دام أكثر من 15 سنة، وعندما همَ الدكتور بالدخول إلى قاعة التكريم استوقفه منظر رجل كبير في السن يبيع الجرائد مفترشاً الرصيف. وقف الطبيب ينظر لبائع الجرائد برهة ثم دخل القاعة.. ؜أجبر الدكتور نفسه ودخل القاعة وجلس غير أن ذهنه بقي مع بائع الجرائد.وعندما نودي على اسم الطبيب (سعادة الدكتور ضياء كمال الدين) من أجل تقليده وسام الإبداع، قام من مكانه، لكنه لم يتوجه إلى المنصة بل خرج من القاعة. راح الكل ينظر للطبيب في استغراب!!! أما الدكتور فتوجه للشيخ بائع الجرائد وأخذ يده فسحب البائع يده وهو يقول : ؜( اتركني يا بني ماراح افرش الجرائد مرة أخرى هنا ) ؜رد عليه الطبيب بصوت مخنوق : ؜( أنت أصلاً ما راح تفرش مرة أخرى.. أرجوك تعال بس معي شوي..). ؜أخذ البائع يقاوم والدكتور يأخذ بيده فتخلى الشيخ عن المقاومة بعد ما رأى دموع الطبيب. دخلا معاً للقاعة .. ؜فقال البائع : مابك يا بني؟؟؟؟ ؜لم يتكلم الدكتور وواصل السير به إلى المنصة ..بقي الحضور في حالة استغراب غير أن الدكتور انفجر بالبكاء وأخذ يعانق بائع الجرائد ويقبل رأسه وهو يقول : ؜أنت ما عرفتني يا أستاذ خليل؟؟؟؟ ؜رد البائع : ؜لا والله ما عرفتك يا بني والعتب على النظر. ؜فرد الدكتور : ؜انا تلميذك ضياء كمال الدين في الاعدادية المركزية لقد كنت أنا الأول دائماً، وانت من كنت تشجعني ويتابعني سنة 1966 حينها احتضن البائع تلميذه فأخذ الطبيب وسامه وقلده لبائع الجرائد الذي كان يوماً ما أستاذه للغة العربية.. ؜بعدها قال الدكتور كلمته أمام الحضور : ؜
( هؤلاء هم من يستحقون التكريم.. والله ماتخلفنا وجهلنا إلاَّ بعد أن قمنا بإذلالهم وإضاعة حقوقهم وعدم احترامهم وتقديرهم بما يليق بمقامهم وبرسالتهم السامية ).
 وأعتقد أن هذا الموقف، وتعليق الدكتور العراقي ضياء كمال الدين يغني عن أي تعليق آخر !
 يوماًما غير بعيد صنفت جمهوريةاليمن الديمقراطية الدولة الأفضل في التعليم في محيطها في الخليج والجزيرة، من  منظمة التربية والتعليم والثقافة ( اليونسكو) التابعة للامم المتحدة !! 
  وكنا نحتفل في العاشر من سبتمبر في كل عام بعيد العلم، تكرم فيه الدولة الأوائل والمتفوقين والمبدعين في كافة المجالات. 
  فانظروا أين كُنا وأين أصبحنا !!!